اليساربطبيعة الحال تيار حديث، لذلك فهو يعمل عموماً من خلال تنظيمات حديثة لا تقوم على الأسرة أو القبيلة أو الطائفة الدينية ولكن تتأسس على روابط المصلحة أو الأفكار المشتركة
الأحزاب السياسية في مصر بكافة أنواعها "العلمانية والدينية" مجرمة ومحرمة إلا ما اعتقد الأمن في لحظة ما أنه لا ضرر منها
الرخصة الوحيدة التي أعطيت لحزب يساري كانت لحزب التجمع "رفعت السعيد"في السبعينات،
ثم انتهى الأمر عند هذا الحد والحقيقة أن حالة الأحزاب "الشرعية" مثل التجمع لم تشكل دافعا بأى شكل من الأشكال للمجموعات اليسارية في القطاع "غير المنظم" كي تحاول الحصول، هي أيضاً، على رخصة العمل السياسي
لذلك استسلمت المجموعات اليسارية للعمل "السري"
وهو الأمر الذي وضع اليسار في مأزق هو المأزق الأكبر بالنسبة له.
فهذه المجموعات "السرية" تعمل في السياسة كما يعمل بائعي الفرشة
تتركهم البلدية يعرضون بضاعتهم على الأرصفة، وهم بذلك يستطيعوا جذب الزبائن ببضاعة رخيصة وإن كانت "مضروبة" في بعض الأحيان
ولكن كما ينطلق الأمن لكي يطارد الباعة في الشوارع من وقت لأخر، ينطلق نفس الأمن لكي يطارد اليسار "السري" غير المنظم بشكل دوري. وكما يحدث للباعة حين يهاجمهم عساكر البلدية، فيحملون الفرشة على رؤؤسهم ويجرون بها إلى الحواري الضيقة، ويصطدمون بالمارة الذين يضعهم حظهم العاثر في طريق الباعة الفارين، فبالمثل.. عندما يهاجم رجال أمن الدولة اليسار غير المنظم، يفر إلى الشوارع الضيقة وفي بعض الأحيان يصطدم بالآخرين
والحقيقة أن السبب الرئيسي لحالة السرية التي يعاني منها اليسار تكمن في قانون الأحزاب المصري الذي يحرم قيام الأحزاب على أساس اجتماعي/طبقي، في حين أن فكرة اليسار تنطلق أساساً من وجود جماعات اجتماعية محرومة تحتاج إلى تنظيم نفسها داخل المجال السياسي
والغريب أن اليسار عمل طوال السنين الماضية وراء أهداف عامة طموحة مثل إسقاط النظام الحاكم الاستبدادي، ولكنه لم يعمل لمواجهة النص الذي يشكل الأساس القانوني لطرده من المجال السياسي المنظم والشرعي
هل سمعت يوما عن محامي يساري أو جهة يسارية حاول أو حاولت الطعن في دستورية هذه المادة
ولأن السياسة مثل التجارة.. فالتجارة تحتاج للعلنية حتى يلتقي البائعين والمشترين في مكان محدد، بشروط محددة في مواعيد محددة فيخرج كل من الطرفين غانماً سالماً من عملية التبادل
أما التنظيم السري فليس له عنوان واضح يمكن الذهاب إليه، هذا بالإضافة إلى أن العلاقة معه يشوبها عدم اليقين لأن قواعد اللعبة غير واضحة
والسرية تؤدي إلى ظهور أمراض مستعصية، مثل سيطرة الثقافة الأمنية أو "الفوبيا" الأمنية على الأعضاء
فالنظام الحاكم لا يتعامل مع المجموعات السرية إلا من خلال أجهزة الأمن (هو يفعل ذلك عموماً حتى مع المنظمات العلنية القانونية)، وبالتالي يصبح الهاجس الأمني هو الهم الأول للمجموعة "السرية"، الأمر الذي يكرس من حس سياسي يقوم على الشك والريبة، بل والتخوين في بعض الأحيان. كما أن السرية تحول دون الشفافية وديمقراطية المعلومات داخل التنظيم. وهي تجعل تقييم أداءه من جانب أعضائه وأصدقائه، ناهيك عن المحللين، مسألة بالغة الصعوبة، فلكي تقيم شيئاً يجب أن تتوفر لك معلومات عنه
الأصل في السرية المؤقتة التي يضطر إليها حزب ما هو إخفاء نشاطات معينة عن الأمن
أما السرية المزمنة فهي تؤدي في بعض الأحيان إلى إخفاء عدم وجود نشاطات من الأصل
قد تكون السرية في بعض الأحيان مطلوبة، فهناك أحزاب تضطر أن تنزل تحت الأرض لتحاشي ضربات أمنية تقوم بها أنظمة بوليسية
ولكن عندما تطول مرحلة السرية، وعندما يستسلم تيار لها باعتبارها قدراً، هنا تكون المشكلة. فالسياسة السرية مثل العادة السرية التي يمكن اللجوء إليها في بعض الأحيان لتلطيف الاحتقان والكبت الجنسي انتظاراً لظروف أفضل، ولكن التفنن فيها والاستسلام لها يؤدي في الأجل الطويل إلى العزلة الموحشة.
وهو ما تعاني منه المنظمات اليسارية شبه السرية.
يمكن أن نقول أن حالة النشاط السياسي النسبي خلال السنة الماضية دفعت المنظمات السرية إلى محاولة كسر دائرة السرية كما زادت من إقبال اليساريين على العلنية. ينطبق ذلك حتى على التنظيمات شبه السرية خاصة الاشتراكيين الثوريين، الذين باتوا يعلنون عن وجودهم بشك صريح.
والحقيقة أن المناقشات داخل اليسار حالياً تكشف عن ميل أكثر فأكثر إلى العمل العلني.
وإذا تطورت حالة الزخم التي أصابت اليسار في السنة الماضية بسبب "الحراك السياسي" يمكنها أن تفضي في النهاية إلى العمل المشترك للوصول إلى هدف فرض شرعية قيام أحزاب يسارية علنية وقانونية.
إذا كنا نقول أن السرية هي آفة التنظيمات اليسارية، كيف لنا أن نفسر تحقيق الإخوان والجماعة الإسلامية (في الثمانينات والتسعينات) لنجاحات ضخمة في التجنيد والانتشار بينما هم يفتقدون لأحزاب قانونية.
الحقيقة أن هناك فارق ضخم بين التيار الإسلامي واليسار.
فالمساحة التي يتحرك فيها الإسلاميون لا تقتصر على المجال السياسي، فهذا التيار ينشط سياسياً في الجوامع وفي المساحات الدينية، لأنه تيار يقوم على المزج بين الدين والسياسة.
لذلك فضيق المجال السياسي لم يزعج الإخوان والجماعات الإسلامية كثيراً، بل قد يكون قد أراحهم من منافسين محتملين. لا يملك اليسار بطابعه العلماني أن يعمل بالسياسة في المساحات الدينية.
لكن في الحقيقة كان لليسار أن يعمل أكثر في المجال الاجتماعي للهرب من مشكلة ضيق المجال السياسي.
في رأيي المتواضع أن أحد مشاكل اليسار المصري هي أنه تيار مسيس "بضم الميم" بشكل زائد عن اللزوم، في مجتمع تعرضت السياسة فيه للإخصاء منذ زمن ليس بالقريب.
وبهذا فإن تركيز اليسار على المجال السياسي فقط قد أصابه في النهاية بعقم الحياة السياسية المصرية.
مشكلة المجال السياسي، الماء الذي يتنفس فيه السمك، لا تقتصر على أنه مغلق دون تيارات وتنظيمات يسارية تضطر للعمل تحت الأرض.
فالحزب الذي يعمل في العلن وفي ظل القانون، أي التجمع، يظل في حالة أزمة.
فالمجال السياسي الرسمي في مصر ضيق جداً، والأحزاب محاصرة في مقراتها، وأجهزة الأمن تكاد تسيطر على كل شيء.
وبالفعل أمناء الشرطة هم أصحاب السيطرة
إذن فأزمة حزب التجمع ترجع جزئياً "بنقول جزئيا"إلى ضيق المجال السياسي المصري.
فكما أننا لا يمكن أن ننتظر ظهور لاعبين مهرة بدون عدد كبير من الملاعب تستوعب الاعداد
فلا يمكن انتظار ظهور أحزاب قوية أو كوادر عظيمة بدون ملاعب سياسية